فصل: فصل في العدل بين الأولاد والأقارب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في وجوب تحري الحاكم والقاضي العدل والحكم به بين الناس:

ويجب على القضاء والحاكم بين الناس أن يتحروا العدل ويحكموا به بين الناس.
وهم أهم ركن تقوم عليه سعادة المجتمع وينبني عليه أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا جار القاضي ولم يقسط اختل الظلم وسادت الفوضى، ولهذا إذا عم العدل استغنت الأمة عن المحاكم وقضاتها ومحاميها والوكلاء والسماسرة، وانقطع دابر شهداء الزور أعدمهم الله عن الوجود أو أصلحهم، فأكثر الحكام وظيفتهم إقامة العدل، فإذا وجد العدل فلا حاجة إليهم، وبذلك يتوفر على الأمة عدد كبير يشتغل فِي مصالح أخرى، ويتوفر مقدار كثير من المال.
ولهذا السلف تمر المدة الكثيرة على القاضي لا يأتيه خصوم، وإليك حكاية حال تاريخية تنطبق تمامًا على المتصفين بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة. عيَّن أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لَمْ يختصم إليه اثنان فطلب من أبو بكر إعفاءه من القضاء فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
فقال له عمر: لا يا خليفة رسول الله ولكن لا حجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل مِنْهُمْ مَا له من حق فلم يطلب أكثر مِنْه وما عليه من واجب فلم يقصر فِي أدائه، أحب كل مِنْهُمْ لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه إذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيهم يختصمون إذًا.
وبالتالي فقد عنيت الشريعة بالعدل فِي القضاء عنايتها بكل مَا هو دعامة لسعادة الحياة فأتت بالعظات البالغات تبشر من أقامه بعلو المنزلة وحسن العاقبة، وتحذر من انحراف عنه بالعذاب الأليم.
فمن الآيات المنبهة لما فِي العدل من فضل وكرامة قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فأمر بالعدل ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، هو محبة الله للعبد، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة فِي الدنيا والعيشة الراضية فِي الآخرة.
وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومن الأحاديث الدالة على مَا يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى مَا ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم وما ولوا» رواه مسلم والنسائي.
ففيه دليل على العناية بهم لكونهم عن يمينه جل وعلا ودليل على شدة قربهم مِنْه جل وعلا وفوزهم برضوانه وفي ذكر الرحمن تربية لقوة الرجاء والثقة بأن الحاكم العادل يجد من النعيم مَا تشتهيه نفسه وتلذ عينه قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} فالمقربون يحصل لهم من النعيم ما لا يحصل لغيرهم.
وَقَدْ وردت آيات وأحاديث تحذر من الجور فِي القضاء من ذلك قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور». رواه البزار والطبراني فِي الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.
وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد فِي الجنة واثنان فِي النار فأما الذي فِي الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فِي الحكم فهو فِي النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فِي النار». رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
فالقاضي الممدوح فِي نظر الدين هو الذي يعرف الحق ويقضي به فإما معرفة الحق فإنها تحتاج إلى مجهود عظيم وبحث فِي كل الظروف والأحوال المحيطة بالخصوم وأما الحكم بالحق فإنه يحتاج إِلَى مجاهدة عظيمة حتى يبعد القاضي عن الميل ويتنزه عن التحيز إِلَى أقربائه وأصدقائه وأصهاره وجيرانه أو من بينهم وبينه رابطة، أو تجمعهم معه جامعة أو يكون له فِي الميل غرض يناله من مال أو منصب أو شهوة.
فالقاضي لا ينجو إلا إذا كَانَ كالميزان المنضبط فلا يميل مثقال ذرة إِلَى أحد الخصمين إلا بالحق ومن لَمْ يفعل ذلك فإنه يتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين». على مَا فسره بعض العلماء من أن معناه أنه عرض نفسه للهلاك والعذاب الأليم وهذا أن لَمْ يقض بالحق.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي تمرة قط». رواه أحمد وابن حبان فِي صحيحه ولفظه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى القاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب مَا يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي عمره قط». والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

.فصل في العدل بين الأولاد والأقارب:

وكذلك العدل بين الأولاد والأقارب بالقيام بحقوقهم على اختلاف مراتبهم والقيام بصلتهم الواجبة والمستحبة به تتم الصلة وتقوى روابط المحبة والتعاطف، وبذلك يكسبون الشرف عند الله وعند خلقه وبه تنظر هذه البيوت التي قامت على ذلك بعين التقدير والتعظيم والإجلال.
وبذلك تحصل بإذن الله التكاتف والتساعد على مصالح الدنيا والدين وذلك راجع إِلَى العدل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والمرأة راعية فِي بيت زوجها مسئولة عن رعيتها والخادم راع فِي مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته». رواه البخاري ومسلم.
وأما المرأة فإنها مسئولة عن تدبير منزلها بما يوافق حال زوجها فلا ترهقه بالإنفاق ولا تطلب بطلب لا يقدر عليه ولا تخونه فِي عرضه ولا تفعل مَا يؤذيه وكذلك يجب عليها أن تعدل بين أبنائها فيما بين يديها من طعام وشراب فلا تفضل واحدًا على الآخر من غير حق بل تعطي كل واحد مَا يناسبه فلا تحرم من تبغض وتجزل العطاء لمن تحب فإن خانت زوجها فِي عرضها أو ماله أو آذته بعصيانها أو فضلت بعض أولادها على بعض كَانَت ظالمة تستحق العقاب.
وكذا الخادم والعامل مسئول عن العمل الذي وكل إليه وائتمن عليه فإذا أهمل العامل عملاً أو أداه ناقصًا فقد ظلم سيده واستحق العقاب وكذلك الخادم إذا خان سيده فِي ماله كَانَ كلفه بشرائه فزاد فِي ثمنه وأخذه لنفسه أو أهمل مساومة التاجر فغبه فِي السلعة أو رأى أحدًا يعتدي على مال سيده فلم يرده أو كلفه بالإنفاق على عمل فأسرف فيه بدون حق فانه يكون ظالمًا وآثمًا.
ومن هؤلاء الصناع الذين يتعاقبون على عمل ثم لا يجيدون صنعه ويغشون الناس فإنهم ظالمون آثمون وكذلك النجارون والحدادون وسائر أهل الصنائع لأنهم مكلفون بالعدل فِي صنائعهم بان يجيدوها ولا يتركوا خللاً إلا أصلحوه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع استرعاه حفظ أم ضيع». رواه ابن حبان فِي صحيحه وجاء فِي ترك العدل بين الزوجات أحاديث تدل على خطورة ذلك مِنْهَا مَا ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط». رواه الترمذي.
ورواه أبو داود ولفظه: «من كَانَت له امرأتان فمال إِلَى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل». ورواه النسائي ولفظه: «من كَانَت له امرأتان يميل إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل». ورواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا: «جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط». اللهم قو إيماننا بك وبكتبك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. اللهم ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل في ذكر عدل الخلفاء الراشدين ومن اقتدى بهم:

وإذا تتبعت سيرة الخلفاء الراشدين ومن اقتدى بهم وجدتهم يعدلون ويأمرون بالعدل بل مِنْهُمْ من يطلب بنفسه من الأمة أن تحاسبه على كل عمل وتصرف وتقومه فِي كل خطأ قَدْ يصدر مِنْه ما داموا مخلصين يبتغون وجه الله فِي حكمهم وسلطانهم.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل يقول عندما استلم الحكم: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني مَا أطعت الله ورسوله فيكم. ويقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا فليقومه.
وقال رجل لعمر: اتق الله يا عمر فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقولون هذا لأمير المؤمنين ولكن عمر نهره بتلك الكلمة وقال: لا خير فيكم إن لَمْ تقولوها ولا خير فينا إن لَمْ نسمعها.
وفي مرة كَانَت جملة من غنائم المسلمين أبراد يمانية فقام عمر رضي الله عنه يقسم هذه الغنائم بالعدل وَقَدْ أصابه مِنْهَا برد كما أصاب ابنه عبد الله مثل ذلك كأي رجل من المسلمين ولما كَانَ عمر بحاجة إِلَى ثوب طويل لأنه طويل الجسم تبرع له ابنه عبد الله ببرده ليصنع منهما ثوبًا يكفيه ثم وقف وعليه هذا الثوب الطويل يخطب فِي الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فوقف له سلمان الفارسي الصحابي المشهور الجليل فقال لعمر: لا سمع لك علينا ولا طاعة.
فقال عمر رضي الله عنه: ولم؟ قال سلمان: من أين لك هذا الثوب، وَقَدْ نالك برد واحد وأنت رجل طويل فقال: لا تعجل ونادى ابنه عبد الله فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: ناشدتك الله البرد الذي اتزرت له اهو رداؤك؟ فقال: اللهم نعم. قال سلمان: الآن مر نسمع ونطيع.
وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود فإذا امرأة برزة على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه أو سلمت عليه فرد عليها فقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرًا فِي سوق عكاض تصارع الصبيان فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله فِي الرعية واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر رضي الله عنه.
فقال الجارود: هيه قَدْ اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها أما تعرف هذه هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سمواته فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها.
وقام مرة خطيبًا فقال: إن رأيتم فِيَّ اعوجاجًا فقوموني. فقام رجل من الحاضرين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر.
وكان رضي الله عنه إذا التبست عليه بعض الأمور يشاور الصحابة وقال رضي الله عنه: مَا تشاور قوم قط إلا هدوا لرشدهم.
وقال لقمان لابنه يا بني شاور من جرب فإنه يعطيك من رأيه مَا أقام عليه بالغلاء وأنت تأخذه بالمجان.
وقال الحسن: الناس ثلاثة فرجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل، فأما الرجل فذو الرأي والمشورة وأما نصف الرجل فالذي له رأي ولا يشاور، وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي لا رأي له ولا يشاور.
وقال ابن عيين كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أمرًا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إِلَى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم مِنْه ليشاور الرجل الناس.
وقال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تقطع أمرًا فلا تقطعه حتى تستشير مرشدًا.
رُكُوبُكَ الأَمْرَ مَا لَمْ تَبْدُ مَصْلَحَةٌ ** جَهْلٌ وَرَأْيُكَ فِي الإِقْحَامَ تَغْرِيرُ

فَاعْمَلِ صَوَبًا وَخُذْ بِالْحَزْمِ مَأْثَرَةً ** فَلَنْ يُذَمَّ لأَهْلِ الْحَزْمِ تَدْبِيرُ

وقال عمر رضي الله عنه: لا أمين إلا من يخشى الله فشاور فِي أمرك الذين يخشون الله.
إِذَا بَلَغَ الرَّأُي الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ** بِرِأْيِ نَصِيح أَوْ نَصِيحَةٍ حَازِمِ

وَلا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً ** فَإِنْ الْخَوَافِي قَوةٌ لِلْقُوَادِم

آخر:
شَاوِرْ سِوَاكَ إِذَا نَالِتْكَ نَائِبَةٌ ** يَوْمًا وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ

فَالْعَيْنُ تُبْصِرُ فِيْهَا مَا دَنَا وَنَأَى ** وَلا تَرَى نَفْسَهَا إِلا بِمِرْآت

آخر:
إِذَا عَنَّ أَمْرٌ فَاسْتَشِرْ فِيهِ صَاحِبًا ** وَإِنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ تُشِيرُ على الصُّحَبِ

فَإِنِي رَأَيْتُ الْعَيْنَ تَجْهَلُ نَفْسَهَا ** وَتدْرِك مَا قَدْ حَلَّ فِي مَوْضِعِ الشُّهْب

وقال سليمان بن داود: يا بني لا تقطع أمرًا حتى تأمر مرشدًا فإذا فعلت فلا تحزن.
وفي كتاب الإمام علي رضي الله عنه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر: ولا تدخل فِي مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانًا يضعفك عن الأمور ولا حريصًا يزين لك الشر بالجور فإن البخل والحرص والجبن غرائز وشتى يجمعن سوء الظن بالله.
وعنه من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها فِي عقولها.
إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمٍَة ** فَإِنَ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَدًّا

وَإِنْ كُنْتَ ذَا عَزْمٍ فَأَنْفَذْهُ عَاجِلاً ** فَإِنْ فَسَادَ الْعَزْمِ أَنْ تَتَقَيَّدَا

ولما بويع بالخلافة فِي اليوم الذي مات فيه أبو بكر بوصية من أبي بكر إليه هابه الناس هيبة شديدة حتى إنهم تركوا الجلوس فِي الأفنية فلما بلغه ذلك جمع الناس ثم قام على المنبر حيث كَانَ يقوم أبو بكر يضع قدميه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي وقالوا: قَدْ كَانَ عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا فكيف الآن وَقَدْ صارت الأمور إليه.
ولعمري من قال ذلك فقد صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عنده وخادمه حتى قبضه الله تعالى وهو راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عليَّ راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك.
ثم إني وليت هذا الأمر فاعلموا أن تلك الشدة قَدْ تضاعفت ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين.
وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لبعضهم من بعض ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه حتى يضع خده على الأرض وأضع قدمي على الآخر حتى يذعن للحق.
وإلى هذا أشار الشاعر فِي قوله:
فِي طِيِّ شِدَّتِهِ أَسْرَارُ رَحْمَتِهِ ** لِلْعَالَمِينَ وَلِكْن لَيْسَ يُفْشِيهَا

وَبَيْنَ جَنْبَيِهِ فِي أَوْفَى صَرَامَتِهِ ** فُؤَادُ وَالِدٍَة تَرْعَى ذَرَارِيهَا

أَغْنَتْ عِنْ الصَّارِمِ الْمَصْقُوِلِ دُرَّتُهُ ** فَكَمْ أَخَافَتْ غَوَي النَّفْسِ عَاتِيهَا

وقال: ولكم عليَّ أيها الناس أن لا اخبأ عنكم شيئًا من خراجكم وإذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه ولكم عليَّ أن لا ألقيكم فِي المهالك وإذا غبتم فِي البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وأخرج بن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إِلَى حذيفة رضي الله عنهما أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه قَدْ فعلنا ويبقى شيء كثير.
فكتب إليه عمر: إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر ولا لآل عمر أقسمه بينهم.
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إِلَى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد فاعلم يومًا من السنة لا يبقى فِي بيت المال درهم حتى يكتسح حتى يعلم الله إني قَدْ أديت إِلَى كل ذي حق حقه.
وعند ابن عساكر عن سلمة بن سعيد قال: أتى عمر بن الخطاب بمال فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال فِي بيت المال لنائبه تكون أو أمر يحدث.
فقال كلمة مَا عرض بها إلا شيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها أعصي العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ولتكون فتنة من بعدي.
وقال سعيد بن المسيب: توفي والله عمر رضي الله عنه وزاد فِي الشدة فِي موضعها واللين فِي مواضعه وكان أبا العيال حتى إنه يمشي على المغيبات اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكن حاجة حتى اشتري لكن فإني أكره أن تخدعن فِي البيع والشراء فيرسلن معه جواريهن.
فيدخل ومعه جواري النساء وغلمانهم ما لا يحصي فيشتري لهن حوائجهن فمن كَانَت ليس عندها شيء اشترى لها من عنده وكان يحمل حراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال بعضهم له: دعني احمل عنك. فقال عمر: ومن يحمل عني ذنوبي يوم القيامة.
ويروى أنه مر بنوق قَدْ بدت عليها آثار النعمة تهف ذراها فسأل عن صاحبها فقالوا: عبد الله بن عمر فساقها إِلَى بيت مال المسلمين ظنًّا مِنْه أن ثروة ابنه لا تفي لها وأنه لولا جاهه بين الناس مَا قدر على إطعامها.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَمَا وَفَى ابْنُكَ عَبْدُ اللهِ أَيْنُقُهُ ** لَمَّا اطَّلَعْتَ عَلَيْهَا فِي مَرَاعِيهَا

رَأَيْتَهَا فِي حِمَاهُ وَهِي سَارِحَةٌ ** مِثْلَ الْقُصُورَ قَدْ اهْتَزَّتْ أَعَالِيهَا

فَقُلَت مَا كَانَ عَبْدُ اللهِ يُشْبِعَهَا ** لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدِي أَوْ كَانَ يَرْوِيهَا

قَدْ اسْتَعَانَ بَجَاهِي فِي تِجَارَتِهِ ** وَبَاتَ بِاسْمِ أَبِي حِفْصٍ يُنَمِّيْهَا

رُدُّوا النِّيَاقَ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنَّ لَهُ ** حَقَّ الزِّيَادَةِ فِيهَا قَبْلَ َشارِيهَا

وَهَذَهِ خُطَّةٌ للهِ وَاضِعُهَا ** رَدَتَ حُقُوقًا فَأْغْنَتَ مُسْتَميحِيهَا

وروي أن طلحة رضي الله عنه خرج فِي ليلة مظلمة فرأى عمر رضي الله عنه قَدْ دخل بيتًا ثم خرج فلما أصبح طلحة ذهب إِلَى ذلك البيت فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة لا تقدر على المشي فقال لها طلحة: مَا بال هذا الرجل يأتيك. فقالت: إنه يتعاهدني من مدة كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى يعني القذر والنجاسة فرضي الله عنه أرضاه.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
ولما رجع رضي الله عنه من الشام إِلَى المدينة انفرد عن الناس ليتعرف ويتفقد أحوال رعيته فمر بعجوز فِي خباء لها فقصدها فقالت: يا هذا مَا فعل عمر؟ قال: قَدْ أقبل من الشام سالمًا. فقالت: لا جزاه الله خيرًا.
قال: ولم؟ قالت: لأنه والله مَا نالني من عطائه منذ تولى أمر المسلمين دينار ولا درهم قال: وما يدري بحالك وأنت فِي هذا الموضع فقالت: سبحان الله، والله مَا ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري مَا بين مشرقها ومغربها فبكى عمر رضي الله عنه وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك يا عمر حتى العجائز.
ثم قال لها: يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله فقال: لست بهزاء فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا.
فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه شتمت أمير المؤمنين فِي وجهه.
فقال لها عمر: يرحمك الله ثم طلب رقعة جلد يكتب بها فلم يجد فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم هذا مَا اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إِلَى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارًا فما تدعي عند وقوفه فِي الحشر بين يدي الله تعالى فعمر مِنْه بريء شهد على ذلك علي وابن مسعود دفع الكتاب إليَّ وقال: إذا أنا مت فاجعله فِي كفني ألقى به ربي عز وجل.
هكذا يكون العلماء العاملون قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
عَلَى قَدْرِ عِلْمِ الْمَرْءِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ ** فَلا عَالِمٌ إِلا مِنَ اللهِ خَائِفُ

فَآمِنْ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ جَاهِلٌ ** وَخَائِفُ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ عَارِفُ

وأخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: كَانَ بين عمر وبين أبي كعب رضي الله عنهما خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال له عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم.
فلما دخل عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين فقال له عمر:
هذا أول جور جرت فِي حكمك، ولكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبيّ وأنكر عمر فقال زيد لأبي: اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كَانَ للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما دار إِلَى جنب مسجد المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: بعينها فأراد عمر أن يزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يبيعها إياه فقال عمر: فهبها لي فأبي فقال: فوسعها أنت فِي المسجد فأبى.
فقال عمر: لابد لك من إحداهن فأبى عليه فقال: خذ بيني وبينك رجلاً فأخذ أبيا رضي الله عنه فاختصما إليه فقال أبي لعمر: مَا أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا فِي كتاب الله وجدته أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدمًا فأوحى الله إليه أن لا تبني فِي حق رجل حتى ترضيه» فتركه عمر فوسعها العباس رضي الله عنهما بعد ذلك فِي المسجد.
بلغ يا أخي هذه القصة للساكنين فِي بيوت المسلمين بغير رضاهم وقل لَمْ تصلون وتصومون وتنكحون فِي بيت مغصوب يدعو عليكم مالكه ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا. أما علمتم أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا.
وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن سعيد بن المسيب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يعطيها إياه فقال عمر: لآخذنها فقال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب رضي الله عنه قال: نعم.
فأتيا أبيًّا فذكرا له فقال: أبيّ أوحى الله إِلَى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أن يبني بيت المقدس وكانت أرضًا لرجل فاشترى مِنْه الأرض فلما أعطاه الثمن قال: الذي أعطيتني خير أم أخذت مني قال: بل الذي أخذت منك قال: فإني لا أجيز ثم اشتراها مِنْه بشيء أكثر من ذلك فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا.
فاشترط سليمان عليه الصلاة والسلام أني أبتاعها منك على حكمك فلا تسألني أيهما خير قال: فاشتراها مِنْه بحكمه فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا فتعاظم ذلك سليمان عليه الصلاة والسلام أن يعطيه فأوحى الله إليه أن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطيه حتى يرضى ففعل وأنا أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضى، بلغ يا أخي أيضًا هذه القصة الساكنين فِي بيوت المسلمين بغير حكم شرعي وقل لهم أما تتقون الله وتخشون عقوبته.
قال العباس: فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنة الفردوس مثوانا ومثواهم.
وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كَانَ فِي دار العباس بن عبد المطلب إِلَى الطرق بين الصفا والمروة فقال له العباس: قلعت مَا كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بيده فقال: إذا لا يرده إِلَى مكانه غيرك ولا يكون سلم غير عاتق عمر فأقامه وأعاده على عاتق عمر ورده إِلَى موضعه.
وساوم عمر رضي الله عنه رجلاً من رعيته فِي شراء فرس ثم ركبه عمر ليجربه فعطب فرده إِلَى صاحبه فأبى صاحب الفرس أن يأخذه فقال له: وهو خليفة المسلمين اجعل بيني وبينك حكمًا فرضي الرجل بقضاء شريح العراقي فتحاكما إليه.
فقال شريح: بعد أن سمع حجة كل مِنْهما: يا أمير المؤمنين خذ مَا اشتريت أو رده كما أخذته فأكبر عمر هذه العدالة والنزاهة من شريح وقال: وهل القضاء إلا هكذا ثم أقام شريحًا على القضاء فِي الكوفة تقديرًا لنزاهة وعدله رضي الله عنهما وأرضاهما الله يسر لنا أمثالها وأبعد عنا أضدادهما.
الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤمله من الخيرات معطيًا سواك ولا لكسره جابرًا إلا أنت يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وكان عمر رضي الله عنه فِي خلافة أبي بكر يتعهده امرأة عمياء بالمدينة ليقوم بأمرها فكان إذا جاءها ألفاها قَدْ قضيت حاجتها فترصد عمر يومًا فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤنتها لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها، عندئذ صاح عمر حين رآه أنت هو لعمري. ولله در القائل يصف الصحابة رضي الله عنهم:
قَوْمٌ طَعَامُهُمُو دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ ** يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْعُلا وَالسُّؤْدِد

ومن كلامه إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير مَا أعزنا الله به أذلنا الله.
وعن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبة صوف فيها اثنا عشر رقعة بعضها من جلد، ورآه رجل وهو يطلي بعيرًا من إبل الصدقة بالقطران فقال له: يا أمير المؤمنين لو أمرت عبدًا من عبيد الصدقة فكفاله فضرب عمر صدر الرجل وقال: عبد أعبد مني.
وروي أنه أتي بمال كثير فأتته ابنته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين حق أقربائك فقد أوصى الله بالأقربين فقال: لا يا حفصة إنما حق الأقربين فِي مالي، فأما مال المسلمين فلا يا حفصة نصحت وغشيت أباك فقامت تجر ذيلها.
وروي أنه جيء بمال كثير من العراق، فقيل له: أدخله بيت المال فقال: لا ورب الكعبة لا يرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد، وغطى بالأنطاع، وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار.
فلما أصبح نظر إِلَى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ، فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين مَا هذا بيوم بكاء ولكنه فِي قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم.
قم أقبل إِلَى القبلة وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وعن سنان الدولي أنه دخل على عمر وعنده نفر من المهاجرين الأولين فأرسل عمر رضي الله عنه لسفط أتي به من قلعة بالعراق، وكان فيه خاتم فأخذه بعض بنيه فأدخله فِي فيه فانتزعه مِنْه ثم بكى، فقال له من عنده: لَمْ تبكي يا أمير المؤمنين وَقَدْ فتح الله عليك، وأظهرك على عدوك، وأقر عينك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تفتح الدنيا على أحد حتى تلقى بينهم العداوة، والبغضاء، إِلَى يوم القيامة وأنا أشفق من ذلك». رواه أحمد والبزار.
وروي أنه كَانَ يقسم شيئًا من بيت المال، فدخلت ابنة له صغيرة فأخذت درهمًا فنهض فِي طلبها حتى سقطت ملحفته عن منكبيه، ودخلت الصبية إِلَى بيت أهلها وهي تبكي، وجعلت الدرهم فِي فمها، فأدخل عمر إصبعه فِي فمها فأخرج الدرهم وطرحه على خراج المسلمين، وقال: أيها الناس إنه ليس لعمر ولا لآل عمر إلا مَا للمسلمين قريبهم وبعيدهم.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا عَلَى حرة واقم، فإذا نار توارى بضرام، فقال: يا ابن أسلم إني أحسب هؤلاء ركبًا يضربهم الليل والبرد، انطلق بنا إليهم، قال: فخرجنا نهرول حتى انتهينا إِلَى النار فإذا امرأة توَقَدْ تحت قدر، ومعها صبيان يتضاغون، فقال: السلام عليكم أصحاب الضوء أأدنو فقالت المرأة: أدن بخير أو دع. فقال: مَا بالكم؟ قالت: يضربنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فما هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به والله بيننا وبين عمر.
فقال: وما يدري عمر قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق فيه عكنة من شحم، فقال: أحمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، احمله عليَّ فحملته عليه فخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها.
ثم أخرج الدقيق فجعل يقول ذري عليَّ وأنا أسوطه، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فجعلت أنظر إِلَى الدخان يخرج من تحت خلل لحيته حتى أنضج.
ثم أخذ من الشحم فأدمها به ثم قال: ائت بشيء فجاءته بصحفة، فأفرغ القدر فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم، وأنا أسطح لك، يعني أبرده، فأكلوا حتى شبعوا.
ثم ترك عندها فضل ذلك، فقالت: له جزاك الله خيرًا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فقال: قولي خيرًا إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك.
ثم تنحى قريبًا فربض مربض السبع، فقلت له: إن لك شأنًا غير هذا، فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ويضحكون، ثم ناموا فقام وهو يحمد الله تعالى.
ثم أقبل عليَّ وقال: يا ابن أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى مِنْهُمْ مَا رأيت. اهـ.
وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم:
وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدَرِ مُنْصَهِرًا ** وَالنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا

وَقَدْ تَخَلَّلَ فِي أَثَنَاءِ لِحْيَتِهِ ** مِنْهَا الدُّخَانَ وَفُوْهُ غَابَ فِي فِيهَا

رَأَى هَنَاكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ** حَالَ تَرُوْعُ لَعَمْرُ الله رَائِيْهَا

يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ ** وَالْعَيْنُ مِنْ خَشَْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا

وعن الحسن البصري قال: بينما يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج ليلاً فتسقي لهم الماء، وتكره أن تخرج نهارًا، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها.
ثم قال لها: أغدي إِلَى عمر غدوة يخدمك خادمًا، قالت: لا أصل إليه، قال: إنك ستجدينه إن شاء الله فغدت عليه، فإذا هي به فعرفت أنه الذي حمل عنها القربة، فاستحيت وذهبت فأرسل لها عمر بخادم ونفقة.
وكان إذا قدم الرسول من الثغور بكتب إِلَى أهليهم هو الذي يدور بها ويوصلها إِلَى بيوتهم بنفسه، ويقول: إذا كَانَ عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن إذا خرج الرسول دار عليهن بالقرطاس والدواة بنفسه فيقربن من الأبواب فيكتب لهن إِلَى رجالهن.
ثم يأخذ الكتب فيأمر به مع الرسول، وعن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال فِي خطبته: إني لَمْ ابعث عمالي ليضربوا أبشاركم- أي جلودكم- ولا ليأخذوا أموالكم.
فمن فعل به ذلك فليرفعه إِلَى أقصه مِنْه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته، أتقصه مِنْه، قال: أي والذي نفسي بيده لأقصه مِنْه، وَقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه- أي مكن من القصاص مِنْه- أخرجه أبو داود.
وفي حديث أخرجه البخاري عن عمر أنه قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي مَا أشكل من أمرهم.
وفي حديث أخرجه البخاري ومسلم أن عمر لما طعن قيل له: لو استخلفت، فقال: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا، عن استخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم وددت أن حظي مِنْهَا الكفاف، لا علي ولا لي، فقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغب وراهب.
اللهم رضنا بقضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعَلَى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم.
فصل:
وعن ابن عمر قال: تضرعت إِلَى الله أن يريني أبي فِي النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته عن حاله، فقال: لولا رحمة الله لهلك أبوك إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فكيف الناس فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه، وقال: فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف عمر بن عبد العزيز.
ولما أصاب الناس هول المجاعة والقحط فِي عهد عمر رضي الله عنه كَانَ لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد الراحة إلا قليلاً كَانَ كل همه أن يدفع خطر المجاعة عن شعبه، وما زال به الهم حتى تغير لونه وهزل وقال من رآه: لو استمرت المجاعة شهورًا أخرى لمات عمر من الهم والأسى.
وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء فوزعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئًا وقال لرئيس القافلة: ستأكل معي فِي البيت ومنى الرجل نفسه ممتازًا حيث ظن أن أمير المؤمنين يكون طعامه خيرًا من طعام الناس.
وجاء عمر والرجل على البيت جائعين بعد التعب ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسر يابس مع صحن من الزيت واندهش الرجل وتعجب من أن يكون هذا الطعام طعام أمير المؤمنين.
وقال: لماذا منعتني من أن آكل مع الناس لحمًا وسمنًا وقدمت هذا الطعام قال عمر: مَا أطعمك إلا مَا أطعم نفسي.
قال: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وَقَدْ وزعت بيدك اللحم والطعام عليهم قال عمر: لقد آليت على نفسي أن لا أذوق السمن واللحم حتى يشبع مِنْهَا المسلمون جميعًا، أسمعت مثل هذا الإيثار لغير الأنبياء والخلفاء الراشدين.
ومن ورعه وتقشفه مَا روي من أن امرأته اشتهت الحلوى فادخرت لذلك من نفقة بيتها حتى جمعت مَا يكفي لصنعها فلما بلغ عمر ذلك رد مَا ادخرته إِلَى بيت المال ونقص من النفقة بقدر مَا ادخرت وإلى هذا أشار الشاعر:
إنْ جَاعَ فِي شَدَّةِ قَوْمٌ شَرَكْتَهُمُ ** في الْجُوعِ أَوْ تَنْجَلِي عَنْهُم غَوَاشِيهَا

جُوعُ الخَلِيفَةِ وَالدُّنْيَا بِقَبْضَتِهِ ** في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبْحَانَ مُولِيهَا

فَمَنْ يُبَارِي أَبَا حَفْصٍ وَسِيْرَتَهُ ** أَوْ مَنْ يُحَاوِلُ لِلْفَارُوقِ تَشْبِيهَا

يَوْمَ اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا ** مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الحَلْوَى فَأَِشْرِيهَا

لاَ تَمْتَطِي شَهَوَاتِ النَّفْسِ جَامِحَةً ** فَكِسْرَةُ الْخُبْزِ عَنْ حَلْوَاكِ تُجْزِيهَا

قَالَتْ لَكَ اللهُ إَنِّي لَسْتَ أَرْزَؤهُ ** مَالاً لِحَاجَةِ نَفْسٍ كُنْتُ أَبْغِيهَا

لَكِنْ أُجَنِّبُ شَيْئًا مِنْ وَضِيفَتِنَا ** فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى حَالٍ أُسَوِّيهَا

حَتَّى إذَا مَا مَلَكْنَا مَا يُكَافِئُهَا ** شَرَيْتُهَا ثُمَّ إنِّي لاَ أُثنِّيْها

قَالَ اذْهَبِي وَاعْلَمِي إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً ** أنَّ القَنَاعَةَ تُغْنِي نَفْسَ كاسِيهَا

وَأَقْبَلَتَ بَعْدَ خَمْسٍ وَهْيَ حَامِلَةٌ ** دُرَيْهِمَاتٍ لِتَقْضِي مِنْ تَشَتِّهيَها

فَقَالَ نَبَّهْتِ مِنِّي غَافِلاً فَدَعِي ** هَذِي الدَّرَاهِمَ إذْ لاَ حَقَّ لِي فِيهَا

مَا َزادَ عَنْ قُوتِنَا فالمُسْلِمُونَ بِهِ ** أَوْلَى فَقُومِي لِبَيْتِ المَالِ رُدِّيهَا

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أنفد عمالاً قال لهم: اشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إِلَى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج.
قال عبد الرحمن بن عوف: دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال: قَدْ نزل بباب المدينة قافلة وأخاف إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي: نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته.
وقال عمر رضي الله عنه: يجب عليَّ أن أسافر لأقضي حوائج الناس فِي أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرون عَلَى قصدي فِي حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال واسبر سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين، فلا يكون فِي سِنِي عُمَرَ أبرك من هذه السنة.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلَى عامله أبي موسى الأشعري: أما بعد، فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته فإياك والتبسط فان عمالك يقتدون بك وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضرًا فأكلت كثيرًا حتى سمنت لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كَانَ ذلك الظلم منسوبًا إليه وأخذ به وعوقب عليه.
وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحد غبنًا ممن باع دينه وآخرته بدينا غيره وأكثر الناس فِي خدمته شهوتهم فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إِلَى مرادهم من الشهوات وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه فِي النار ليصلوا إِلَى إغراضهم وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى فِي هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل عَلَى الرعية أن يرتب غلمانه وعماله للعدل ويحفظ أحوال العمال وينظر فيها كما ينظر فِي أحوال أهله وأولاده ومنزله ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولا من باطنه وذلك أن لا يسلط شهوته وغضبه عَلَى عقله ودينه ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه.
وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عنه عففت عنه وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وسئل يومًا عما يحل له من مال الله فقال: أنا أخبركم بما أستحل مِنْه يحل لي حلتان حلة فِي الشتاء وحلة فِي الصيف وما أحج عليه واعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني مَا أصابهم. رضي الله وأرضاه وجعل جنة الفردوس مثواه.
وروي أن معاوية- وهو عَلَى الشام بعث مرة إِلَى عمر بن الخطاب بمال وأدهم- أي قيد- وكتب إِلَى أبيه أبا سفيان أن يدفع ذلك إِلَى عمر فخرج رسول معاوية بالمال والأدهم حتى قدم عَلَى أبي سفيان بالمال والأدهم، فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إِلَى عمر واحتبس المال لنفسه فلما قرأ عمر الكتاب قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كَانَ علينا دين ومعونة ولنا فِي بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئًا قاضيتنا به. فقال: اطرحوه فِي الأدهم أي فِي القيد حتى يأتي المال.
فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال فأمر عمر بإطلاقه من القيد فلما قدم رسول معاوية عَلَى معاوية قال له: أرأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم قال: نعم وطرح فيه أباك قال: ولم؟ قال: إنه جاء بالأدهم وحبس المال. قال معاوية: أي والله والخطاب لو كَانَ لطرحه فيه يريد أن الخطاب أبا عمر مكان أبي سفيان فِي القصة حتى يأتي المال فرضي الله عن عمر وأرضاه مَا أنصفه وأعدله وأروعه.
وفي ذلك يقول الشاعر:
وَمَا أَقَلْتَ أَبَا سُفْيَانِ حِينَ طَوَى ** عَنْكَ الْهَدِيَّةَ مُعْتَزًّا بِمُهْدِيهَا

لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَقَدْ حَاسَبْتَهُ حَسَبٌ ** وَلاَ مُعَاوِيَةٌ بِالشَّامِ يَجْيِبهَا

قَيَّدْتِ مِنْهُ جَلِيلاً شَابَ مَفْرِقُهُ ** فِي عِزَّةٍ لَيْسَ مِنْ عِزٍّ يُدَانِيهَا

قَدْ نَوَّهُوا فِي اسْمِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ ** وَزَادَهُ سَيَّدُ الكَوْنَيْنِ تَنْوِيهَا

في فَتْحِ مَكَّةَ كَانَتْ دَارُهُ عُمَرٍ ** قَدْ أَمَّنَ اللهُ بَعْدَ البَيْتَ غَاشِيهَا

وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَشْفَعْ لَدَى عُمَرٍ ** في هَفْوَةٍ لأَبِي سُفْيَانَ يَأْتِيهَا

تَاللهِ لَوْ فَعَلَ الخَطَّابُ فِعْلَتَهُ ** لَمَا تَرَخَّصَ فِيهَا أَوْ يُجَارِيهَا

فَلاَ الحَسَابَةُ فِي حَقٍّ يُجَامِلُهَا ** وَلاَ القَرَابَةُ فِي بُطْلٍ يُحَابِيهَا

ويروى أن جبلة بن الأيهم أحد أبناء الغساسنة ملوك الشام قَدْ اعتنق الإسلام وبينما هو ذات يوم يطوف إذ وطئ أعرابي ثوبه فلطمه جبلة لطمة هشمت أنفه فشكاه الأعرابي إِلَى عمر فأمر أن يقتص من جبلة فأبى جبلة أن يمكنه من القصاص وهرب والتجأ إِلَى القسطنطينية وتنصر.
وفي ذلك يقول الشاعر:
كَمْ خِفْتَ فِي اللهِ مَضْعُوفًا دَعَاكَ بِهِ ** وَكَمْ أَخَفْتَ قَوِيًّا يَنْثَنِي تِيهَا

وَفِي حَدِيثِ فَتَى غَسَّانَ مَوْعِظَةٌ ** لِكُلِّ ذِي نَعْرَةٍ يَأْبَى تَنَاسِيهَا

فَمَا الْقَوِيُّ قَوِيًّا رَغْمَ عِزَّتِهِ ** عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَالْفَارُوقُ قَاضِيهَا

وَمَا الضَّعِيفُ ضَعِيفًا بَعْدَ حُجَّتِهِ ** وَإنْ تَخَاصَمَ وَالِيهَا وَرَاعِيهَا

ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى عمرو بن العاص إنه قَدْ فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لَمْ تكن حين وليت مصر فكتب إليه عمرو إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا فكتب إليه إني خبرت من عمال السوء مَا كفى وكتابك إِلَى كتاب من أقلقه الأخذ بالحق وَقَدْ سؤت بك ظنًا وَقَدْ وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فأطلعه وأخرج إليه مَا يطالبك وأعفه من الغلظة عليك، فلم يسع عمرو بن العاص عَلَى دهائه وعلو مكانه وبعده عن أمير المؤمنين إلا الخضوع لما أمر به ومقاسمه محمد بن سلمة ماله وإلى هذه القصة يشير الشاعر:
شَاطَرْتَ دَاهِيَةَ السُّوَّاسِ ثَرْوَتَهُ ** وَلَمْ تَخَفْهُ بِمِصْرَ وَهْوَ وَالِيهَا

وَأَنْتَ تَعْرِفُ عَمْرًا فِي حَوَاضِرِهَا ** وَلَسْتَ تَجْهَلُ عَمْرًا فِي بَوَادِيهَا

فَلَمْ يَرُغ حِيلَةً فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ ** وَقَامَ عَمْروٌ إِلَى الأَجْمَالِ يُزْحِيهَا

وَلَمْ تُقِلْ عَامِلاً مِنْهَا وَإِنْ كَثُرَتْ ** أَمْوَالهُ وَفَشا فِي الأرْض فاَشِيهَا

اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
ومن ورعه رضي الله عنه مَا يتجلى فيما يلي مما روي عنه: كَانَ رضي الله عنه ممن يأخذون بالشورى فِي أمرهم عملاً بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وكان يقول: لا خير فِي أمر أبرم من غير شورى.
وهو أول من قرر قاعدة الشورى فِي انتخاب الخليفة فقد سئل عندما طعن عمن يوصي بعده فقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني فِي حفرتي فأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم عَلَى رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحدًا فاضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة ورضوا رجلاً مِنْهُمْ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما فإن رضي ثلاثةٌ رجلاً مِنْهُمْ فحكِّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً مِنْهم.
فإن لَمْ يرضوا بحكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ولم يذكر فِي الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه فخشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المبشرين فِي الجنة بل قيل إنه استثناه من بينهم وإلى هذه القصة يشير الشاعر فِي قوله:
يَا رَافِعًا رَايَةَ الشُّورَى وَحَارِسَهَا ** جَزَاكَ رَبُكَ خَيْرًا عَنْ مُحِبِّيهَا

لَمْ يُلْهِكَ النَّزْعُ عَنْ تَأْيِيدِ دَوْلَتِها ** وَلِلمَنِيَّةِ آلامٌ تُعَانِيهَا

لَمْ أَنْسَ أَمْرَكَ لِلْمِقْدَادِ يَحْمِلُُهُ ** إِلَى الْجَمَاعَةِ إنْذَارًا وَتَنْبِيهَا

إنْ ظَلَّ بَعْدَ ثَلاَثٍ رَأْيُهَا شَعَبًا ** فَجَرِّدِ السَّيْفَ وَاضْرِبْ فِي هَوَادِيهَا

فَأَعْجَبْ لِقُوَّةِ نَفْسٍ لَيْسَ يَصْرِفُهَا ** طَعْمِ المَنِيَّةِ مُرًّا عَنْ مَرَامِيهَا

دَرَى عَمِيدُ بَنِي الشُّورَى بِمَوْضِعِهَا ** فَعَاشَ مَا عَاشَ يَبْنِيهَا وَيُعَلِيهَا

وَمَاَ اسْتَبَدَّ بِرَأْي فِي حُكُومَتِهِ ** إنَّ الْحُكُومَةَ تغْرِي مُسْتَبِدِّيهَا

رَأْيُ الجَمَاَعَةِ لاَ تَشْقَى البِلاَدُ بِهِ ** رَغْمَ الْخِلاَفِ وَرَأْيُ الفَرْدِ يُشْقِيهَا

ومن لطفه ورأفته برعيته وحرصه عَلَى العدل فيهم مَا يتجلى فِي وصيته لأبي موسى الأشعري وَقَدْ كتب له كتابًا قال فيه: فإذا جاء كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع.
وإياك وإتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إِلَى الرضا والغبطة.
ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إِلَى الندامة والحسرة، آس بين الناس فِي وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فِي حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك.
ولا يمنعك قضاء قضية اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إِلَى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي فِي الباطل والفهم الفهم فيما تلجلج فِي صدرك مما ليس فِي كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها.
واعمد إِلَى أقربها إِلَى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا أمدًا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحلت عليه القضية فإن ذلك أنفى للشك وأجلى وأبلغ فِي العذر، والمسلمون عدول بعضهم عَلَى بعض إلا مجلودًا فِي حد أو مجربًا عليه شهادة زور أو متهمًا فِي ولاءٍ أو نسبٍ فإن الله قَدْ تولى منكم السرائر. وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات.
فإن الحق فِي مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل عَلَى نفسه كفاه الله مَا بينه وبين الناس.
ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب عند الله عز وجل وخزائن رحمته والسلام.
وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
مقتل عمر رضي الله عنه لم يصب المسلمون فِي العصر الأول بمصيبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاة الصديق أعظم من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
جنى عليه غلام مجوسي اسمه أبو لؤلؤة كَانَ للمغيرة بن شعبة وها نحن نستوقف لك مَا رواه البخاري فِي صحيحه عن عمرو بن ميمون فِي هذا المصاب الجلل.
قال عمرو: إني لواقف مَا بيني وبينه عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب.
وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لَمْ ير فيهن خللاً تقدم فكبر.
وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك فِي الركعة الأولى حتى يجتمع الناس.
فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة فسار العلج بسكين ذا طرفين لا يمر عَلَى أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنْهُمْ سبعة.
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه.
وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة.
فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع. قال: نعم. فقال: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا الحمد الله الذي لَمْ يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام فاحتمل إِلَى بيته.
فانطلقنا معه وكأن الناس لَمْ تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: لا بأس عليه. وقائل يقول: أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه.
وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم فِي الإسلام مَا قَدْ علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة.
قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا الغلام قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.
يا عبد الله بن عمر أنظر مَا علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إِنْ وَفَى بذلك مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل فِي بني عدى ابن كعب فإن لَمْ تف أموالهم فسل فِي قريش ولا تعدهم إِلَى غيرهم فادعني هذا المال.
انطلق إِلَى عائشة أم المؤمنين فقال: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل يستأذن عمر ابن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فقالت: كنت أريده لنفسي ولا أوثرنه به اليوم عَلَى نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قَدْ جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: مَا لديك.
قال الذي يحب يا أمير المؤمنين: أذنت. قال: الحمد لله مَا كَانَ شيء أهم إلي من ذلك فإذا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني وإن ردتني ردوني إِلَى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة بنت عمر، والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل.
فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف. فقال كما فِي رواية مسلم: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا لوددت أني أحظى مِنْهَا الكفاف لا عليَّ ولا لي.
وإن استخلفت فقد استخلفت من هو خير منى يعني أبا بكر.
وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن عمر: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف ثم قال عمر: مَا أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عنهم راض.
فسمى عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئته التعزية له.
في كُلِ عَصْرٍ لِلْجُنَاةِ جَرِيرَةٌ ** لَيْسَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ تَزُولُ

جَاوُرا عَلَى الْفَارُوق أَعْدَلُ مَنْ قَضَى ** بَعْدَ النَّبِي وزَكَّى رَأْيَهُ التَّنْزِيلُ

وَعَلَى عَلي وَهْوَ أطْهَرُنا فَمَا ** وَيَدًا وَسَيْفُ نَبِيِّنَا الْمَسْلُولُ

كَمْ دَوْلَةٍ شَهِدَ الصَّبَاحُ جَلاَلهَا ** وأَتَى عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَهِيَ فَلُولُ

وَقُصُورُ قَوْمٍ زَاهِرَاتٍ فِي الدُّجَى ** طَلَعَتْ عَليهَا الشَّمْسُ وَهِيَ طُلُولُ

ولكِنَّنَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ** عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ نُعَوِّلُ

نُقرُّ بأنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ ** عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ

وكُلُ مَكَانٍ فَهْوَ فِيهِ بِعِلْمِهِ ** شَهِيدٌ عَلَى كُلُّ الْوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ

وَمَا أثبتَ البَارِي تَعَالى لِنَفْسِهِ ** مِن الوَصْفِ أوْ أَبْدَاهُ مَن هُوَ مُرْسَلُ

فَنُثْبِتُهُ للهِ جَلَّ جَلاَلُهُ ** كَمَا جَاءَ لا نَنْفِي ولا نَتَأوَّلُ

هُوَ الْوَاحِدُ الْحَيُّ القَدِيرُ لَهُ البَقَا ** مَلِيكٌ يُوَلِّي مَن يَشَاءُ ويَعْزِلُ

سَميعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ ** عَلِيمٌ مُرِيدٌ آخِرٌ هو أَوّلُ

تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ ** وَصَاحِبَةٍ فَاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ

وَلَيْسَ كَمِثل اللهِ شَيْءٌ وَمَا لَهُ ** شَبِيهٌ ولا ندٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ

وإنِّ كِتَابَ اللهِ مِن كَلِمَاتِهِ ** ومِن وَصْفِهِ الأَعْلَى حَكِيمٌ مُنَزَّلُ

هو الذِكْرُ مَتْلوٌ بأَلْسِنَةِ الوَرَى ** وفي الصَّدْرِ مَحْفُوظٌ وفي الصُّحْفِ مُسْجَلُ

فألفَاظُهُ لَيْسَتْ بمَحْلوقَةٍ ولا ** مَعَانِيهِ فاتْرُكْ قَوْلَ مَن هُوَ مُبْطِلُ

وَقَدْ أَسْمَعُ الرَّحْمَنُ مُوسىَ كَلاَمَهُ ** عَلَى طُورِ سِينَا والإِلهُ يُفَضِّلُ

ولِلِطُور مَوْلانَا تَجَلىَ بُنُوْرِهِ ** فَصَارَ لِخَوفِ اللهِ دَكًا يُزَلْزَلُ

وإنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلاَئِكًا ** كِرَامًا بسُكَّانِ البَسِيطةِ وكِّلُوا

فََيُحْصُونَ أَقْوالَ ابن آدَمَ كُلَّهَا ** وأَفْعَالَُ طُرًا فلا شَيءَ يُهْمَلُ

ولا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وكُلُ مَنْ ** سِواهُ لَهُ حَوضُ المنيةِ مَنْهَلُ

وإنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بقَبْضِهَا ** رَسولٌ مِن اللهِ العظيمِ مُوَكَّلُ

ولا نَفْسَ تَفْنَى قَيْلَ إكْمَالِ رِزْقِهَا ** ولَكِنْ إذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ

وسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه ** وَمَنْ بِالظُّبَا وَالسَّمْهَريَِّةِ يُقْتَلُ

وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ ** لِكُلِّ صَرِيعٍ فِي الثَّرَى حِينَ يُجْعَلُ

يَقُولانِ مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ مَا الذِّي ** تَدِيْنُ وَمَنْ هَذَا الذِّي هُوَ مُرْسَلُ

فَيَا رَبَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحّقِّ وَرُوحُ مَنْ ** وَدَى فِي نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتَجْعَلُ

فَأَرْوَاحُ أَصْحَابٍ السّعادةِ نُعِّمَتْ ** بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ

وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارِهَا ** وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيَاهِ وَتَأْكُلُ

وَلَكِنَ شَهِيْدَ الحَرْبِ حَي مُنَعِّمٌ ** فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ وَالجِسْمِ يَحْصُلُ

وأرْواحُ أصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانَةٌ ** مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ واللهُ يَعْدِلُ

وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوحُ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ ** فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًا يُهَرُّولُ

وصِيحَ بِكُلِّ العَالمِيْنَ فَأُحْضِرُوا ** وقِيْلَ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا

فَذَلِكَ يَوْمٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبَهُ ** بِوَصْفٍ فَإِنََ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ

يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ ** وَكُل يُجَازَى بِالذِّي كَانَ يَعْمَلُ

وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيعُهَا ** وَقَدْ فَازَ مِنْ مِيزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ

وَفِي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا ** وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتُعْدَلُ

وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ** وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ

وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِّرْكِ رَبِي لِمَنْ يَشَا ** وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِ بِاللهِ أَجْمَلُ

وَإِنَّ جَنَانَ الْخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا ** مُقِيْمًا عَلَى طَوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ

أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي ** وَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ مُهَلِّلُ

وَيَنْظُر مَنْ فِيهَا إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ ** بِذَا نَطَقَ الوحِيُ المبينُ المنزُّلُ

وإن عَذَابَ النَّار حقٌّ وإنَّهَا ** أُعِدَّتْ ِلأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ

يُقِيمُوْنَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى ** إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ

وَلَمْ يَبْقَ بِإِجْمَاعِ فِيهَا مُوَحِدٌ ** ولَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُولُ وَيَقْتُلُ

وإنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً ** لَدَى اللهِ فِي فَصْل القَضَاء فَيَفْصِلُ

وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ** فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ نَارِهمْ وَهِي تُشْعِلُ

فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيُنْبُتُوا ** كَمَا فِي حَمِيل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ

وَإِنْ لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ ** مِنْ الشَّهْدِ أَحْلَى فَهُوَ أَبْيَضُ سَلْسُلَ

يُقَدِّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ ** كَأْيِلََةَ مِنْ صَنْعَا وَفِي الطَّوْلِ أَطْوَلُ

وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُّجُوْمِ كَثِيْرَةٌ ** وَوُرَّادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ

مِنْ الأُمَّةِ المُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ ** وَعَنْهُ يُنَحِّى مُحْدِثُ وَمُبَدِّلُ

فَيا ربِّ هَبْ لِي شَرْبةً مِن زُلاَلِهِ ** بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَتَفَضَّلُ

اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضي بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.
اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمتت بنا أحدَا.
اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه.
اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطل والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات.
وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير. وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم.